الجمعة، 8 يناير 2010

الشَّـــــــــــــــــــــــــــــــــج


منمنمات (الأرشيف)

أستندُ إلي الحائط، ألم يجتاح كياني، رأسي ينبض سريعاً! أنظر إلي ساقٍ مبتورة - يتكشف عنها العظم- لشحاذٍ اتكأ علي الحائط. ما أبشع المقارنة التي خطرت ببالي وقتها لكني قاومت الألم. تدور الأرض ي امشي كالمخمور الذي يخشى أن يعرفه المارة. فلا يمكن البوح في الألم في المدينة، فلن يهتم بي احد – هكذا فكرت. مازلت أقاوم وأمشي وفي جيبي قروش، ثقب من الحذاء تطل منه قيود علي الحركة مصدره الخجل. بدت لي صورة الرجُل في ذهني ثانيةً، فلعنت الفقر. ما أبشع الألم!

"يارب" أقولها ممطوطة وكلي رجاء أن يخفف عني الألم. خاطر داهمني"لماذا يخلق الله العبد ويعُذبُّه بآلام الجسد والغربة والفراق والصبر والفقر والموت؟!.... "أستغفر الله العظيم" أرد علي نفسي سريعاً. وأردد

"لك الحمد مهما استطال البلاء

ومهما استبد الألم

فإن الرزايا بعض العطاء

وإن المصائب بعض الكرم" *

بالكاد وصلتُ إلي غرفتي. ارتميت علي السرير مُغميً عليّ. أفقت بعدها علي صوت الراديو وكأنني اسمع المذيع يقول"أدان وزير الخارجية المصري الهجمات الإسرائيلية علي قطاع غزة والخليل. فيما أعرب السيد أمين عام الجامعة العربية عن أسفه حيال الصمت الدوليّ إزاء جرائم الاحتلال الإسرائيلي....." شعرتُ بغثيان، توجهت إلي الحمام ملبياً نداءات الطبيعة جميعها!

***

عندما كنت أسمع عنه كلام الناس بأنه أنجح أبناء جيله؛ رجل محترم صاحب مبدأ، يجرحني الكلام إلا انني كنت أطارد ذلك الإحساس القديم المقيت بالغيرة، وما يترتب عليها من إفساد صداقاتي.

وعندما تعرضتُ لأزمتي الأخيرة عقب رجوعي من الكويت طريداً، كان نجم "أحمد" يسطع في سماء قريتنا الصغيرة.

بعد فترة قال الناس "الأستاذ أحمد هيعمل كذا وكذا....." "هيعمر الجبل ويفتح بيوت، ...." فتصاعدت لديّ تلك المشاعر البغيضة، لكني كنت أهرب من أي مكان يأتي فيه ذكر اسمه أو أتجاهل الحديث!

***

أبصري يا نفسُ الشج الذي ما زال في رأسي وتذكري ألمي وبكائي وضَعفي أم نسيتِ؟ آهِ يا نفسي!

***

" لا تظن أني لم أجد في نفسي ما وجدتً أنت في نفسك تجاهي. فكان الزملاء في مجلسهم يذكرون فهلوتك والعفرته التي ربحت بها كثيراً أموالا وأناساً"

ساد الصمت والاندهاش المكان فصار للوجوه طعماً متغيراً وللمكان اغترابه؛ ذلك الاعتراف أدهشني ... أسعدني وملأني سخريةً من النفس البشرية. كنت أحنق علي أحمد عندما يأتي ذِكره فيمتدحوا ثباته علي المبادئ ونجاحه من بيننا. والآن يُصارحني بما لم أكن أتصوره أو بما لم أكن متأكدا منه -- علي وجه الحقيقة!

لكن ما قاله الزملاء كان حقاً أُريدَ به باطل، فهم لا يعرفون بعد أنني الآن لا أملك شيئاً اللهم ما تيسر للبدأ في مشروعنا الصغير! فأنا الخاسر إذن! قد قالوا عنه حقاً وقالوا عنا ما تصوروه لكننا متعادلين في نظر الناس علي الأقل. لكن الحقيقة ستظهر إن عاجلاً أو آجلاً وستنكسر .. لا...لا ...

كل هذا دار في خلدي في ثوانِ ونظرتُ في عيني أحمد بعد الذي قاله وشعرت بأنه أقرب روح لي وأحس هو بقربنا المتناهي وسئمنا الناس ونفسينا اللذين ينظرون إلينا كفرسي رهان فعكفنا نتجاذب الحديث، وعندما تلعب الأنا دورها نتقاسم المجموعة فريقين، فريقي وفريقه وكان كل يوم من أيام إجازته مباراةً نهائية يكسب فيها احدنا ويخسرها الآخر!

***

كم هو ضعيف الإنسان. يُعجَبُ بقوته وجسمه أو ملابسه أو ممتلكاته فيمشي يهتز متبختراً وعندما يتثاءب فيروس الأنفلونزا بداخله ينتفض ويبتل في هدومه ويهذي ويهتز كيانه مع أن الفيروس هذا لا يُري إلي بالميكروسكوب فلا تراه عيناه مهما كانت حدة بصرها.

***

احتفلنا برجوع الأستاذ احمد إلي المكتب. كنت قد زرته مرات أخري بعد عملية المخ وعرف عني أكثر. ناداني في أول يوم يرجع فيه إلي العمل – وكنت في البوفيه أدخن سيجارة. "يا أبو زارع" "نعم يا أستاذ أحمد" ومشيت تجاهه.

-- إيه أخبارك يا بني؟

-- الحمد لله يا أستاذنا ..

-- يعني ندورلك علي شقة وعروسة؟

-- ها ها مشي قوي كده يعني.

-- اوعي تكون بتروح مكان من إياهم ولّا بتتعاطي حاجة؟

-- انت عارفني يا أستاذ أنا بتاع الحاجات ديا؟

-- طيب أُمال الحياة بتروح فين؟ (هكذا يسمي الفلوس الحياة)!

-- يا استاذ أخويا في الجامعة وأنا متحمل جزء كبير من مصاريفه وإن شاء الله ربنا يسهل دلوقتي.—طيب أقولك علي حاجه يا عبد السلام.

-- تؤمرني

-- انت تمسك حسابات محلات الملابس. ترجع بعد المكتب تشيِّك علي الحسابات علشان انت عارف الصحة على القد

-- ربنا يديك الصحة يا أستاذ.

***

نحن نشارك في خلق سير حياتنا بنسبةِ ضئيلة لكن اللاعب الرئيسي هو القدر. لذا فإن حياتنا تحمل في طياتها جبرية قدرية لا مهرب منها. هَب أن أحمد مروان لم يبدو بذلك السلوك والخُلق أمام الأستاذ "أحمد لاشين" فما كان ليزوجه وحيدته، ويثق به تلك الثقة. أو أن عبد السلام زارع – قبحني الله من مخلوق- لم يفعل ما فعل مع "أحمد مروان" ما كان قرَّبه ووثق به تلك الثقة.

أما "أشرف سليمان" فقد لعب على وتر الصداقة، وناهد تلعب علي إيقاع الأخوة والمسئولية العائلية. كلٌ له تحايله وهكذا تكون الحياة سلسلة من الأدوار. فقبل ثلاثين عاماً، جاء أحمد لاشين عاملاً للبناء ولكنه لم يرقد رقاده الأخير إلا عندما مل أشهر أحياء القاهرة بمحلات ومخازن الملابس وأصبح شريكاً لكبري شركات المقاولات. ونودي "البشمهندس احمد لاشين" والحاج"أحمد لاشين". كل هذا من اجل أن المقاول الأشهر "موسي أبو المعاطي" قد وثق بمساعده الذي يعمل معه منذ فترة، فترك له ميراثاً من المعارف وعاديات العمل.

***

كنا نمشي جنب الحائط. لم نرفع لافتة أو نحرق علماً، لم نرفع عقيرتنا في مظاهرة تخترق مباني الجامعة، ولم نندد بالصهيونية إلا سراً. هل لأننا نعلم مُسبقاً أن ذلك لن يُجدي؟ أم خوفاً؟ أم أننا لا نهتم بالأمر كلية؟

كان يحلو لنا أن تفسير عدم إقامة علاقة مع زميلاتنا بأننا نعلم مُسبقاً أن"الريح لن يأخذ شيئاً من البلاط" أو أننا نخاف من الله والناس وأن "كما تدين تدان" و"لو زدنا لزاد السقا" أو لن الأمر يتطلب جرأةً وشياكة. لم نكن أيضاً من الطلاب الناشطين في المسرح أو مجلات الحائط أو الأُسر أو الدوري الجامعي، ولم نكن أيضاً من أوائل الدفعة. وكأننا نحتاج عمراً آخر كي نخوض غِمار تلك التجارب. كنا نتخوف من عصافير الأمن، ونشك في وجودهم من الأساس، ونحب الإخوان ونخشى الاقتراب وأحياناً ننتقدهم! نحن متشابهان لأبعد مدي نحلم بالإثم ولا نقربه. نحلم باليقين الذي يعطي أعلي درجات الأورجازم لكننا نصلي يوماً ونترك شهراً!

كنا في منطقةِ رمادية؛ منطقة عدم الانفلات وضبط النفس. ونحلل الأمر:هل هو عيب تربية؟ أم حتمية مجتمع مغلق ومكبوت؟ وفي آخر الحديث نُسَأسِئ ونتناول سيجارتين من علبة أحدنا وننادي علي صبي المقهى، الذي يأتي متكدرا من طلباتنا من الشاي الثقيل الذي يزعج صاحب المقهى.

***

-- أنت تمجد نفسك وتقنع الآخرين بالفهلوة الكاذبة وبطولتك التي صنعتها من ورق، وتتعامل بنعومة كالأنثي!

-- وأنت تبالغ في طموحك، وتنظر للآخرين من علِ. كنتَ تجلس بين الآخرين، فتتحدث إليهم تضييعاً لوقتك، وأنت تأكل بعضك علي هذا الوقت لكنك تتواضع بالقدر الكافي حين تتذكر أن ما باليد حيلة وأن الفرصة لم تواتيك بعد. ابق في "مصر" كما تشاء وستكتشف أنها جبل أوليمب يصعد إليه كل"سيزيف" حاملاً صخوره لكن مجهوده سيضيع سديً، أما أنا فلم أعد أؤمن بتلك الخرافة مالي وللوطن، غنه أكبر كذبة. ما علاقتي به سوي أنه ارض ولدت عليها كالآف من يولدون يحملني علي ظهره كالآخرين. هل قصدت تلك الأرض مثلاً – حاشا لله أن تطأطئ تُمهِّد طريقها للفارس الذي يمر علي أرضها مثلا؟!! (يرفع صوته) اتنين شاي تقييل.

-- وهل قصد ابوك أن ينجب المهدي المنتظر حضرتك؟! وهل كانت أمك تظن أنها ترضع مخلص العالم؟!

-- ههههههههه

-- كيف عرفت أن الوقت يزعجني وكل ثانية تمر هي وفاة لقطعة من المجد الذي حلمت به، لكني لا أنظر لأحدِ بتعالي.

-- أنا لم اقل بتعالي قلت من علِِ

(يضحك الاثنان)

-- أحدهم قادم --- أووه -امسك سيجارة -- الآخرون هم الجحيم!!! -والمجد للشيطان معبود الرياح!!! (يضحك الاثنان)

***

أحياناً يواتيني السؤال الكبير"من أنا؟" رسمٌ علي رمل ستعلوه الرمال مع أول هبة للريح فتطويه الأيام والسنون كما طوت غيره. لا .... لا يمكن..... لِمَ؟ أما زِلتَ تشك أن الموت وهم، وأن أعمامك سيرجعوا ذات يوم من غربتهم، دفنوا علي شاهد منك، وفي لحظة غضبٍ أخرجتَ هاتفك لتتصل بأحدهم لينقذك من الموقف الذي يواجهك لكن كانت المشكلة - وقتها - رقمه!!!

كنت بلا حماس لشئ سوي العمل. فما نحتاجه هو العمل. فتلك البلاد التي دانت لها المم ساجدة، ومبهورة بعظمتها تستجدي القمح والمئونة والسلاح من أولاد السفاح والسجون ونحن أبناء الآلهة آمون ورع! هكذا كنت تفكر واليوم تتكئ علي مكتبك مُتخمٌ بالأموال وعلاقاتك الفاسدة التي تستند إليها في الأقسام والجمارك والمطار والتشعر العقاري والمرور تذكرت حين كن تمشي أياماً دون أن يكون في جيبك سوى ما يكفي لطعام هزيل. لكن نار الحماسة لا تلبث أن تنطفئ رغماً عني فماذا يمكن أن افعل بعد الشَج الذي قسم رأسي وأصبغ علي طبيعتي هدوءا ورزانة أكرهها إذا كنت مرغماً عليها.

***

أقابلهم جميعاً بوجهٍ مبتسم :المنافقون وتجار الكلام، الهمّازون ،والمراءون، والمرابون، وتجار الأعراض، والزانيات، وسماسرة الظلام ،وأصحاب الغرض. تخدعهم بسمتي، لكني لا أكذب حين ابتسم. إنني أقف في عليائي ناظراً إلي ما يرجونه مني، وحين أعطي كلٌ حاجته يذهب كلٌ في طريقة مدبراً، وأقول علهم يرجعوا يوماً عما هم فيه!!!

في المنام دعوني إلي مكتب مهيب تخفت الأنوار فيه ثم تعلو. إنه الطريق المؤدي إلي مكتبه. تصطك رجلي بأختها، ويجف يقرأ التقرير الروتيني. تتدحرج عينايّ من الحرج تتلعثم الكلمات بداخلي، أُفضل الصمت. إنها خطبة وستنتهي حتماً. أخرج بعد كَمٍ من الوعود والنعم والحاضِر. من وراء الستارة أنظر، نفسها البنت التي يقبل يديها الآن هي البنت التي كان تهاتفني فأترفع عنها. إنه كالطفل يخلع فراءها وتتدلي حدقتان واسعتان من البله من وجهه أبصق علي الأرض ثم أطأها برجلي ، أضحك عالياً، سريعاً سينادي الفراش ليطاردني. عالياً سأقول بهستيرية " عرفت سرك يا أهبل" أخرج سريعاً، وعندما أستيقظ أقول في سري "وخُلِقَ الإنسانُ ضعيفاً"



ليست هناك تعليقات: