الثلاثاء، 29 مارس 2011

بصيرة

كنتُ أجلس على حافة الطريق المؤدي إلى المدرسة منتظراً عودة أخي لكي يقودني إلي البيت بعد أن أنهي اليوم الدراسي... أجلس مع أصدقائي فيتكرر الكلام، وأشعر بأن أذني وفمي قد أخذا كفايتهما؛ أود اطلاق عينيَّ إلي السماء لأرتادها متجولاً في زرقتها بين نجومها وكواكبها أو أري وجوهاً وزهوراً. لا أستطيع – كبقية خلق الله — أن أمارس نعمة "أفلا تبصرون"، ولا يمكنني أن أحدد الزمان الذي أرتاد فيه مكانًا ما إلا بعد عطف أخٍ او صديق – لطالما أسمع نفخه المتذمر حتي لو بَرِعَ في كتم صوته بين ضلوعه فيظهر جليًا في صمته أو كلامه. لا أزال أذكر عندما تبولت على نفسي أثناء نومي في بيت جدي – عهدةً تركوني بين يدي جدي وجدتي، حين ذهبت الأسرة مرافقةً والدي في العملية التي يجريها في مستشفي العاصمة. صحوت من نومي لأجد نفسي مبتلاً مذعوراً علي إثر حلم مزعج، وحين سألتُ جدتي عن الماء الذي تُحرق لذعوته ركبتيّ أجابتي بأن الماء قد سكبته عليّ إبنة خالتي الصغيرة بغير قصد! حينها وأثناء مصمصة الشفايف، وصوت تحريكها من اليمين إلي اليسار أسمعها وضحكة ابنة خالتي تملأني خجلاً، انتفضت لأواري سوءة ما حدث ثورةً علي ما حدث لأصطدم بالحائط فيدمي رأسي وتضحك البنت الصغيرة بصوت عال وتتمتم جدتي بأن شيئاً لم يحدث وتنهر البنت الصغيرة التي لاذنب لها سوى أنها ضحكت علي أعمى غبي. هدأتني جدتي وصمتت البنت الصغيرة وربتت علي كتفي. لكن أشياءً كثيرة لازمتني من يومها أولها الإحساس بالعجز!

في آخر النهار، يأتي اخوتي ووالدي من العمل. أحس بأني عالةً عليهم، حتي في الذهاب إلي الحمام. كنت أجد مشكلةً في الأكل والشرب واللبس، كنت أعاني من تلك الأمور أكثر ما أعاني عندما كنتُ في الثامنة عشر، إذ أنني أحس بالنشاط في جسدي غير أني أتصور ذلك العصاب المجهول الذي يُغشي بصري فتُكبت قوة الانطلاق الكامنة فيَّ كغيرها من القوي الغريزية.

الآن سيتغير كل شئ، فهذا الطريق إلي المقهي قد حفظته نعم أعرفه جيداً وأستطيع الذهاب بمفردي دون أن أسمع أخي يقول لأمي -- التي تتوسله لكي يقودني "صحيح ... أقرع ونزهي، فاضيله أنا؟!". صحيحٌ أني في أول مرة قررت فيها الذهاب إلي المقهي بمفردي، دخلت حارة جانبية بجوار المقهي، إلا أن ذلك كان نتيجة سوء تقدير مني لأني لم أركز جيداً.

أتراني أستطيع الذهاب إلي بيت جَدي بمفردي؟### .../7/2007

الثلاثاء، 1 مارس 2011

مختارات

                                                        
‏أريد أن أجد مبررًا واحدًا كي أعيش وأتحمل المشهد اليومي المقيت لهذا المرض والبشاعة والظلم والموت. ومرة أخرى أنطلق من نقطة مظلمة، من الرحم، وأنطلق الآن إلى نقطة مظلمة أخرى، القبر. تقذفني قوه من الحفرة المظلمة لتجرني قوة أخرى وتقذفني بشكل نهائي إلى الحفرة المظلمة. ‏لست كالرجل المحكوم الذي مات ذهنه من الشراب. حجر ثابت برأس صاح، أخطو في ممر ضيق بين جرفين.


‏وأجهد كي أكتشف كيف أشير للذين يرافقونني قبل أن أموت، كيف أمد يدًا وأهجي لهم، في الوقت المناسب، كلمة واحده كاملة على الأقل، لأخبرهم رأيي بهذا الموكب، وإلى أين نشجه. وكم هو ضروري، بالنسبة إلينا جميعا، أن تكون أقدامنا وقلوبنا منسجمة. ‏أن أقول في الوقت المناسب كلمة واحده لرفاقي، كلمة سر، كالمتآمرين.

‏نعم، إن هدف الأرض ليس الحياة، وليس الإنسان. عاشت الأرض دون هذين، وستعيش بدونهما. إنهما ليس إلا الشرارتين العابرتين لدورانها العنيف. ‏لنتحد، لنمسك بعضنا بعضا بشدة، لنوحد قلوبنا، لنخلق - طالما أن دف ء هذه الأرض يتحمل، طالما أنه ليست هناك زلازل وطوفانات وجبال جليد ونيازك تأتي لتدمرنا - لنخلق للأرض دماغاً وقلبا ونمنح معنى إنسانيا للصراع السوبرماني. ‏إن الألم هو واجبنا الثاني.
                                                                      (نيكوس كازانتزاكيس)
             ***
 
"عندما تنتهي العاصفة ويحلّ الليل ويظهرالقمر بكل بهائه، ولا تتبقى سوى ايقاعات البحر وامواجه تضرب في سمعك، تعرف ماذا اراد الله بالجنس البشري وتعرف ماهية الفردوس"
                                                                      ( هارولد بنتر)
 
     ***
تغني، حاصدة القمح المسكينة،


تظن نفسها سعيدة، ربما؛

تغني، وتحصد القمح، وصوتها، مليء

بترملّ مجهول وسعيد،

تتأرجح مثل نشيد عصفور

في الهواء الأنظف من عتبة.

كم من انحناءات في اللُحْمَةِ الناعمة

للصوت الذي تنسجه في نشيدها!

سماعها، يجعلنا سعداء، حزانى،

مرّ العمل والحقول في صوتها،

وتغني كما لكي تغني، كما لو أنها

تملك أسباباً أخرى غير الحياة.

آه، غنّي، غنّي بدون سبب!

تستولي الفكرة على أحاسيسي.

تعالي وانشري في قلبي

صوتك الحائر، المتموج!

آه! لو يمكنني أن أكونك، وأبقى أنا نفسي!

لو أملك لا وعيك السعيد

ووعي ذلك! أيتها الأغنية!

أيتها الحقول! أيتها السماء! العِلمُ

يزن كثيراً والحياة قصيرة جداً!

اجتاحيني! بدّلي

روحي بطيفك الخفيف،

ومن ثم، حين تحملينني، أمضي! 
                                                                           (فرناندو بيسوا)
***
*إلى مومس من عامة الناس*
 
كوني رابطة الجأش، مطمئنة، أنا والت ويتمان، متحرّر وشهواني
 
مثل الطبيعة.
 
ليس حتى تحتجب عنكِ الشمس، كيما أحتجب أنا عنكِ،
 
ليس حتى تأبى أن تتلألأ لكِ المياه
 
وتخشخش لكِ الأوراق،
 
كيما تأبى أن تتلألأ وتخشخش لكِ كلماتي.
 
يا فتاتي، ضربت معكِ موعداً،
 
وأوصيكِ
أن تتأهبّي، كيما تكوني جديرة بلقائي.
وأوصيكِ
 
أن تكوني طويلة الأناة، وفي أوج زهوكِ حتى أجيء.
 
وإلى ذلك الحين،
 
أحييكِ بنظرة جارحة كي لا تنسيني.     

(والت ويتمان)

                                                                       ***
*مستلقياَ ورأسي في حجركَ أيها الرفيق
مستلقياً ورأسي في حجرك أيها الرفيق،
 
الإعتراف الذي سبق وأدليت به أعود فأكرره؛
 
ما سبق وقلته لكَ على الملأ أعود وأكرره:
 
أعلم أني شديد القلق، وأحمل الآخرين على ذلك،
 
أعلم أن كلماتي أسلحة، معبأة خطراً، معبأة موتاً.
 
(حقاً لأني أنا نفسي الجندي الحقيقي،
 
وليس ذاك الذي هناك بحربته،
وليس أتحدى السلام والأمن وكل القوانين الراسخة
 
كيما أزعزعها.
أنا أكثر عزماً وخصوصاً أنّ الجميع أنكرني
 
بما يفوق ما كان ممكناً فيما لو كنت مقبولاً لديهم.
 
أنا لا أبالي، ولم أبالِ قط، بأي تجربة، بمبدأ أخذ الحيطة والحذر،
 
بصوتِ الغالبية، ولا بكل هذا الهراء.
 
والتهديد المُسمّى الجحيم تافه أو نكرة بالنسبة إليّ،
 
والإغواء المُسمّى الجنة تافه أو نكرة بالنسبة إليّ.
 
يا رفيقي العزيز،
 
أنا أعترف بأني حرضتكَ على المضي معي إلى الأمام،
 
ومازلت أحرضكَ من دون أدنى فكرة عن مآلنا،
 
أو ما إذا كان علينا أن نكون ظافرَيْن،
 
أو خاضعَيْن تماماً ومنهزمَيْن.     
           
(والت ويتمان)
 
 
المصدر: المسيرة الإلكتروني، مجلة أوغاريت